إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له. أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة عبده، وابن عبده، وابن أمَتِه، ومن لا غنى به طرفة عين عن رحمته. أشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمة للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلْفا. اللهم اجزه عنا أفضل ما جزيت به نبيا عن أمَّتِه، اللهم وأَعْلِ على جميع الدرجات درجته، واحشرنا تحت لوائه وزمرته. اللهم أوردنا حوضه، واجعلنا من أتباع سنته وشرعته، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اهتدى بسنته واهتدى بسيرته. اللهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين. اللهم أرنا الحق حقًا، والباطل باطلا. اللهم وفقنا لاتباع الحق، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على الأذى في ابتغاء وجهك، وطلب مرضاتك. (رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنّا سيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد .. أحبتي في الله؛ أشهد الله –الذي لا إله إلا هو- على حبِّكم فيه، وأسأله أن يجمعنا وإياكم على الإيمان والذكر والقرآن في هذه الحياة، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، ثم أسأله أخرى أن يجمعنا في جنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، هو ولي ذلك والقادر عليه. أحبتي في الله؛ وأنا أعلم بنفسي منكم ظن بي اخوتي ظنًا عظيمًا، فدعوني فلم أملك إلاَّ أن أجيب، ثم دعوكم فظننتم نفس الظن وأجبتم، فخيرًا جُزبتم، وما أراني -والله- بينكم الليلة إلا كبائع التمر على أهل <هَجَر>، لكني أسأل الله -الذي بيده مقاليد كل شيء- أن يجعلني خيرًا مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون، وألا يؤاخذني بما تقولون، وحسبي أن ألقي عليكم هذه الكلمات، التي أسأل الله أن يجعلها لي ولكم ذخرًا ليوم تتقلب منه القلوب والأبصار، وأن يجعلها من صالحات الأعمال، وخالصات الآثار، والفضل أولا وأخرًا لله الواحد القهار.
يا رب أنت خلقتني وبرأتني *** جمَّلت بالتوحيد نطق لساني
وهديتني سبل السلام تكرمًا **** ودفعتني للحمد والشكران
وغمرتني بالجود سيلا زاخرًا *** وأنا أقابل ذاك بالكفران
فلك المحامد والثناء جميعه *** والشكر من قلبي ومن وجدان
فلأنت أهل الفضل والمنِّ الذي *** لا يستطيع لشكره الثقلان
أنت الكريم وباب جودك لم يزل *** للبخيل تعطي سائر الأحيان
أنت الحليم بنا وحلمك واسع *** أنت الحليم على المسيء الجاني
أنت القوي وأنت قهار الورى *** لا تعجزنَّك قوة السلطان
أنت الذي آويتني وحبوتني *** وهديتني من حيرة الخذلان
ونشرت لي في العالمين محاسن *** وسترت عن أبصارهم عصياني
والله لو علموا قبيح سريرتي **** أبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملُّوا صحبتي *** ولبؤت بعد كرامة بهوان
لكن سترت معايبي ومثالبي *** وحلمت عن سقطي وعن طغياني
لبيك يا رب بكل جوارحي *** لبيك من روحي وملء جناني
اجعل رجائيَ في ثوابك رائدي *** واقبل مقلَّ الجهد في التبيان
يا رب لا تجعل جزائيَ سمعة *** تسري على البلدان والأكوانِ
أنت المضاعف للثواب فإن يكن *** مثقال خردلة على الميزان
تعطي المزيد من الثواب مضاعفًا *** من غير تحديد ولا حسبان
فلك المحامد والمدائح كلها *** بخواطري وجوانحي ولساني
أحبتي في الله؛ الإيمان والحياة، لسائل أن يقول: لِمَ كان اختيار هذا الموضوع؟
فأقول: وهل حياةٌ بلا إيمان؟ إنه الحياة وكفى، لذا لا ينبغي أن يكون الإيمان أمرًا هامشيًا في هذه الحياة، بل هو قضية القضايا، لا يجوز أن نغفله أو نستخف به أو ندعه في زوايا النسيان. كيف لا وهو أمر يتعلق بوجود الإنسان ومصيره. إنه لسعادة الأبد، وإن عدمه لشقاوة الأبد. إنه لجنة أبدًا لصاحبه، والنار أبدًا لمن تنكبه، لذا كان لِزَامًا عليَّ وعلى كل مؤمن بالله، بل وعلى كل ذي عقل أن يفكر في حقيقة الإيمان، وأثره على الحياة؛ حتى يطمئن القلب، وينشرح الصدر، وتسكن النفس، خصوصًا ونحن في عصر أصبح الناس يجرون وراء المنفعة لاهثين، حتى إن كثيرًا منهم ليرون الحق فيما ينفعهم ويتفق مع أهوائهم، لا فيما يطابق الواقع أو تقوم الدلائل والبراهين على صحَّته. (ولَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ) الفرد بلا إيمان ريشة في مهَبِّ الريح، لا تستقر على حال، ولا تسكن إلى قرار، أينما الريح تميل تمل، الفرد بلا إيمان إنسان لا قيمة له ولا جذور، إنسان قلق، متبرِّم، حائر، لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة؟ ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟. الفرد –باختصار- بلا إيمان حيوان شَرِه، وسبع فاتك مفترس، بقلب لا يفقه، بأذن لا تسمع، بعين لا تبصر، بهيمة؛ بل أضل. والمجتمع كذلك، المجتمع بلا إيمان مجتمع غابة ،وإن لمعت فيه بوارق الحضارة؛ لأن الحياة فيه للأقوى لا للأفضل والأفقه، المجتمع بلا إيمان مجتمع تعاسة وشقاء، وإن زخر بأدوات الرفاهية من الرخاء، المجتمع بلا إيمان مجتمع تافه مهين رخيص، غايات أهله لا تتجاوز شهوات بطونهم وفروجهم (يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ)
ومن هنا جاءت الحاجة الماسَّة الملحَّة للحديث عن الإيمان وأثره في الحياة بعمومها، حياة الفرد والمجتمع، حياة الأمة بأسرها. وإني قبل أن أبدأ لأهنئ هذه الوجوه على إيمانها بالله- الذي لا إله إلا هو- فهنيئًا لكم الإيمان، وهنيئًا لكم القرآن، وهنيئًا لكم التوحيد، وهنيئًا لكم الإسلام، هنيئًا لكم يوم يغدو النصارى إياب إلى بيوت الصلبان، ويغدو اليهود إلى بيوت الشيطان، ويغدو المجوس إلي بيوت النار، ويغدو المشركون إلى بيوت الأصنام، ثم تغدون أنتم إلي بيوت الرحمن. (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فاللهم لك الحمد على نعمة الإيمان، أنت الموفق فلك المنَّة والفضل على نعمة الإيمان. (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لاَّ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) فيا أهل الإيمان؛ ما الإيمان؟ الإيمان، تلكم الكلمة المدوية المجلجلة التي تهزُّ كيان المسلم، فيرنو إليها ببصيرته، ويتحرك نحوها فؤاده، ويشد إليها رحاله، وتسمو إليها تطلعاته. إنه الميدان الذي يتسابق فيه المتسابقون، ويتنافس فيه المتنافسون. إنه من كل مسلم يتحسس قبسه في قلبه، ويتلمس وهجه في نفسه، ويسعى ويعمل لسلوك السبيل المحبب له. الإيمان لينير به جوانب روحه. الإيمان ما الإيمان، قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان. الإيمان ما الإيمان، نفحة ربانية يقذفها الله في قلوب من يختارهم من أهل هدايته، ويهيئ لهم سبل العمل لمرضاته، ويجعل قلوبهم تتعلق بمحبته، وتأْنَس بقربه. فالمؤمنون في رياض المحبة، وفي جنان الوصل يرتعون ويمرحون، أحبهم الله فأحبوه، فاتبعوا نبيه ورضي عنهم فرضوا عنه، منه بالصالحات والطاعات، فدنا منهم بالمغفرة والرحمات؛ كما في الحديث القدسي "ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه " متي نكون أهلا لأن نسأل الله فنعطى، ونستعيد بالله فنعاذ.
يا من ألوذ به فيما أؤمله *** وأستعيذ به مما أحاذره.
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره *** ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
الإيمان ما الإيمان ، شعور يختلج في الصدر، ويلمع في القلب؛ فتضيء جوانب النفس، ويبعث في القلب الثقة بالله، والأنس بالله، والطمأنينة بذكر الله (أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الإيمان ما الإيمان، إنه الشعور بأنك ذرة في كون عظيم هائل، متجه إلى الله، يسبِّح لله، ويخضع لله، ويؤمن بالله. (وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه) –تبارك عز وجل- فسبحان من آمن له الكون أجمعه، وسبحان من سبَّح له الكون أجمعه. (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن من شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِه). موكب عظيم يسبح الله، ويؤمن به، يجعلك –أيها العبد- تسأل أين أنت من هذا الموكب؟ حدِّد موقعك في هذا الموكب، وهدفك على هذا الموكب وغايتك؛ فإن الشاذ عن هذا الموكب لهو الشقي الخاسر لنفسه، وماذا بعد خسارة النفس من خسران؟ الله هو الغني، ونحن الفقراء، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، بل مخلوقاته غيرنا كثير وكثير؛ صنف منهم وهم الملائكة لا يحصيهم ولا يعلم عددهم إلا الله -الذي لا إله إلا هو- (لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ) في صحيح [مسلم] "إنه ليدخل البيت المعمور في السماء السابعة كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه إلى قيام الساعة". كم من الملائكة يدخل البيت المعمور منذ أن خلق الله السماوات والأرض، وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، ما بالك بعدد الملائكة عمومًا، ما بالك بغيرهم من سائر المخلوقات، ألم تسمع في الصحيح إلى قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في حديث [أبي ذر] "إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرًا، ولما تلذذتم بالنساء على الفُرِش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله -وفي رواية- ولحثوتم على رؤوسكم التَّراب". أطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئط؛ ما فيها موقع أربع أصابع إلا وملك ساجد أو راكع. أهل سماءٍ يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأخري يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأخرى يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون. خَلْق عظيم هائل لا يحصيهم إلا خالقهم –سبحانه وبحمده- وظيفتهم التسبيح والتعظيم، فماذا يضر أن ينقلب إنسان من هذا الموكب العظيم فيكفر بالله، ومن كفر فعليه كفره (أَلَمْ تَرَ أَنِّ اللهَ يسبح لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ) هل جندت نفسك أخي في الله لتكون من أهل هذا الموكب المسبح السائر إلى الله؟ –أعني موكب المؤمنين-. إن كنت كذلك فأبشرْ بالجزاء من أكرم الأكرمين، يوم الوقوف بين يديْ رب العالمين (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يا من يحب الكنز، ويا من يحب الثروة؛ إن أعظم كنز يكتنزه العبد في هذه الحياة هو كنز الإيمان، وإن أعظم ثروة يكتنزها العبد في هذه الحياة هي ثروة الإيمان، إنه الثروة النفيسة، والكنز الثمين، يسعد به صاحبه حين يشقى الناس، ويفرح حين يحزن الناس هل لهذا الكنز وهل لهذه الثروة من أثر على الحياة إن أثرها عظيم جد عظيم لمن كان له فلب فملأه بالإيمان إن من إيمان العبد بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ليعكس على الفرد لا بل على الأمة جميعا آثارا عظيما فهاك موجزها ولا بأس بعده من تفصيل .اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا المؤمن بالله يشعر بأن الله يراقبه في أفعاله يراقبه على الصغيرة والكبيرة (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا) إذا استشعر العبد هذه المعية سابق إلى الخيرات وخضع مستجيبا لرب الأرض والسماوات فبادر إلى الفضائل.
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل *** خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
والإيمان بالملائكة يجعل المؤمن يستحي من معصية الله لعلمه أن الملائكة معه (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ترافقه وتراه ولا يراها تحصي عليه أعماله بسجلات محكمة لا تغادر صغيرة ولا كبيرة والإيمان بالكتب يجعل المؤمن يعتز بكلام الله ويتقرب إليه بتلاوة كلامه والعمل به ويشعره ذلك أن الطريق الوحيد إلى الله هو اتباع ما جاء في كتبه والذي جاء القرآن مهيمنا عليها ومطبقا بها والإيمان بالرسل يجعل المؤمن يأنس بأخبارهم وسيرهم لا سيما سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فيتخذهم أسوة وقدوة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) أسوة حسنة لا في شرق ولا في غرب بل رسول الله إلى الناس كافة شرقيهم والغربي.
بالشرق أو بالغرب لست بمقتض *** أنا قدوتي ما عشت شرع محمد
حاشى يثنيني سراب الخادع *** ومعي كتاب الله يستطع في يدي
والإيمان باليوم الآخر ينمي في النفس حب الخير ليلقى ثوابه في جنات ونهر ونعم المأوى ويكره في النفس الشر ودواعيه خوفا من نار تلظى ومن وقوف بين يدي المولى والإيمان بالقدر يجعل نفس المؤمن لا تخاف ما أصابها ولا ترجو ما سوى ربها لا تقنع إلا بالله ولا تلجأ إلا لله في الدنيا تزهد بالموت لا تبالي لا تخضع للطغيان بل تخضع للرحمن ولسان حالها
ماض وأعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره *** فخشية الموت عندي أبرد الطرف
آثار الإيمان على الحياة آثار مشرقة تنعكس على تصورات الأفراد وسلوكهم في الحياة حتى إنك لترى القرآن يمشي على الأرض في أشخاص بعض الإفراد فإليكم أزف بعض هذه الآثار مفصلة فاسمعوا أيها الأحباب وافقهوا وبلغوا فرب مبلغ أوعى من سامع .
من آثار الإيمان الثبات بكل صوره ومعانيه عند الشدائد والمحن والمصائب، الثبات يوم تمتحن الأمة بأعدائها، الثبات للداعي في دعوته، الثبات للمصاب عند مصيبته، الثبات للمريض عند مرضه حتى الممات، الثبات أمام الشهوات، الثبات أمام الشبهات، الثبات على الطاعات، الثبات العام، وكفى بالثبات!
هاهو –صلى الله عليه وسلم- يحمل الإيمان في صف، والبشرية كلها في صف مضادٍ، فانتصر بالإيمان، صدع بالحق لا يرده عنه رادٌ، ولا يصده صادٌ، ووقعت قريش منه في أمر عظيم، فإذا بأحد صناديدها يقول: يا معشر قريش؛ لقد وقعتم من محمد في أمر عظيم، لقد كان غلامًا حَدَثًا فيكم، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم الشيب في صدغيه، قلتم: شاعر، ما هو –والله- بشاعر، قلتم: ساحر، ما هو –والله- بساحر، قلتم: كاهن، ما هو –والله- بكاهن، يا معشر قريش؛ إنكم قد نزل بكم أمرٌ عظيم فاجتمعوا له، فاجتمع كبراؤها؛ صناديد الشرك وسَدَنَة الوثنية، الممسكون بحُجَز النار ليقذفوه في النار، اجتمعوا يقود مؤتمرهم إبليس، نعوذ بالله منه، قالوا في اجتماعهم: انظروا رجلا منكم هو أعلمكم بالسحر والشعر والكهانة فليذهب إلى محمد، قالوا: ما نرى مثل [أبي الوليد عتبة بن ربيعة]، فذهب عتبة إلي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكان بليغًا، وكان فصيحًا، جمع مقالاتهم في مقالة واحدة، وقال: يا محمد؛ أنت خير أم أبوك؟ فسكت –صلى الله عليه وسلم- قال: أنت خير أم جدُّك [عبد المطلب]؟ فسكت النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: إن كانوا خيرًا منك فقد عبدوا ما عبدوا، وإن كنت خيرًا منهم فقل، ثم بدأ في الإغراءات التي لا يثبت أمامها إلا المؤمنون. يا محمد إن كان بك المُلْك ملَّكْناك، وإن كان بك المال أعطيناك من أموالنا ما تشاء، وإن كان بك الباءة وحب النساء زوَّجناك ما تشاء من بناتنا، يا محمد؛ ما رأينا شخصًا –قط- أشْأَمَ على قومه منك، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى، فيثور بعضنا على بعض فنقتتل، يا محمد أخبرنا ما تريد؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: "أفرغت يا [أبا الوليد]؟" ويا للأدب منه -صلى الله عليه وسلم-! يا للأدب يوم تركه حتى انتهى من كلامه، ثم شرع -صلى الله عليه وسلم- يرتِّل آيات الله البينات، تسقط كالقذائف على دماغ هذا الرجل، شرع يقرأ من أوائل سورة فصِّلت: (حمَ * تَنزِيلٌ منَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) سمع كلامًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ألقى هذا الكافر يديه خلف ظهره، وأخذته رِعْدة مشدوهًا مبهورًا بمَا يسمع، يسمع القرآن من فَمِ من أنزل عليه القرآن، حتى إذا بلغ قول الله -جل وعلا-: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) فخاف وارتعد وأخذته الرعشة وأخذ يديه الاثنتين وجمعها ووضعها على فم المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وقال: أنشدك الله والرحم إلا صمت، أنشدك الله والرحم إلا صمت، خرج مذعورًا خائفًا راجعًا إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به من عندهم، لما رأوه قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: لقد سمعت من محمد حديثًا ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، ورب هذه البنية –يعني الكعبة- ما عقلت من حديثه إلا قوله: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)، فوضعت يديَّ على فمه خوفًا أن ينزل بكم العذاب، ولقد علمتم أن محمدًا إذا حدث حديثًا لم يكذب. (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) جحدوا بذلك، هل استقاموا لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- هل انتفعوا بالآيات؟ لم ينتفعوا بذلك، فهل سلم منهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بأبي وأمي هو، لا –والله- بل ناصبوه العداء، كأشد ما يكون، وأروه الأذى كأقذع ما يكون الأذى، وضعوا سلى الجذور على ظهره –صلى الله عليه وسلم- ثم لم يجد له مُعِينًا بعد الله إلا بنيته الصغيرة [فاطمة] –رضي الله عنها وأرضاها- ثم ليس هذا فحسب، بل أخرجوه من <مكة>، ودموعه على وجنتيه- صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: "والله إنك لأحب البقاع إلى الله، ولولا أن قومي أخرجوني ما خرجت". ومع ذلك فقد ثبت –صلى الله عليه وسلم- بالإيمان فنصره الله، ونصر دينه، وأعلى كلمته، فما من مئذنة الآن إلاّ وهي تقول في اليوم خمس مرات: أشهد أن محمدًا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويأتي صحابته –رضوان الله عليهم- ومَن بعدهم ليثبتوا بالإيمان ثبات الجبال الشُّم الراسية.
هاهو [خالد بن الوليد أبو سليمان] -رضوان الله عليه- يقارع الروم في أرضهم -كما روى [ابن كثير]- حتى كانت الدائرة على الروم، فما كان منهم إلاّ أن فرُّوا وتحصنوا في مدينة <قنسرين>؛ مدينة محصنة من مدنهم بالجدران المنيعة والأبواب الثقيلة التي لا يقتحمها مقتحم ، فماذا كان من [خالد]؟ حاول اقتحامها فما استطاع، حاول أن يحاصرها حصارًا عامًا عسكريًا واقتصاديًا واجتماعيًا فما أفلح، استعصت عليه، فما كان منه إلا أن دوَّن رسالة، قال في هذه الرسالة قالها بثبات المؤمن الذي يثق بنصر الله جل وعلا قال: من خالد بن الوليد أبي سليمان إلي قائد الروم في بلدة <قنسرين> أما بعد فأين تذهبون منا؟ والذي نفس خالد بيده لو صعدتم إلي السحب لأصْعَدَنا الله إليكم، أو لأمْطَركُم علينا كلمات الثقة بنصر الله -عز وجل- كلمات الثبات الذي لا يكون إلا للمؤمنين، تخرج كالصواعق على أعداء الله، وكالبلسم على أولياء الله. وصلت الرسالة إلى ذلك العلج، فقرأها وارتعدت فرائسه، وسقطت من بين يديه، وما كان منه إلا أن قال: افتحوا أبواب المدينة، واخرجوا مستسلمين، لا طاقة لنا بهؤلاء. ما الذي ثبَّت خالدا إلا الإيمان؟ ما الذي ثبت جند الله إلا الإيمان؟ يوم أخذوه، وأخذوه بحق وبجدية. ليس هذا فحسب وليس صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحسب؛ فها هو [ابن تيميه] -عليه رحمة الله- ذلكم الداعية الذي قارع الطغيان ودمغ البدعة والمبتدعين، فكثر الأعداء فما وهن، وما استكان. لسان حاله :
فكيف تخاف من زيد وعمرو *** وعند الله رزقك والقضاء
ليلقى في السجن فيثبت بإيمانه الراسخ، يقفل السجان الباب فيقول: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) ينظر إلى السجناء ويقول: ما يفعل أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة إنها جنة الإيمان واليقين .يمرض فيثبت ثبات المؤمن في أوقات الشدائد، دخلوا عليه وهو مريض وما اشتكى، فيقولون له: ماذا تشتكي يا إمام؟ قال:
تموت النفوس بأوصابها *** ولم يدرِ عُوَّادها ما بها
وما أنصف مهجة تشتكي *** أذاها إلي غير أحبابها
ثم يختم المصحف في السجن بضع وثمانين مرة، حتى إذا بلغ قول الله -جل وعلا-: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ). لقي الله فرحمه الله، وجمعنا به وبالصالحين من أمة محمد بن عبد الله صلَّى وسلم عليه الله
الثبات للمريض في مرضه. يروي [ابن حجر] في الإصابة أن [عمران بن حصين]- رضى الله عنه- أصابه مرض أقعده ثلاثين سنة، وما اشتكى حتى إلى أهله، فكانت الملائكة تصافحه وقت السحر.
[ أبي بن كعب] -رضي الله عنه- سيد القراء يقول للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أإنا لنؤجر في الأمراض والحمى والمصائب؟ فيقول –صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث المتفق عليه "والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن همٌّ ولا غمٌّ ولا نَصَب ولا وَصَب ولا بلاء حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه" فقال: اللهم إني أسألك حمى لا تبعدني عن صلاة ولا حج ولا جهاد، فمكثت به ثلاثين سنة حتى ابيض شعر رأسه ولحيته، وكان لا يجلس بجانبه أحد من شدة فيح الحمى، ليلقى الله ثابتًا بالإيمان، وهكذا يفعل الإيمان. الثبات للمصاب في مصيبته لا يكون ذلك إلا للمؤمنين. يقول الحافظ [أبو نعيم]: لما توفي [ذر بن عمر الهمداني]، جاءه أبوه أو جاء أبوه، فوجده قد مات، فوجد أهل بيته يبكون، فقال: ما بكم؟ قالوا: مات ذر، فقال: الحمد لله، والله ما ظلمنا ولا قهرنا ولا ذهب لنا بحق، وما أريد غيرنا بما حصل لذر، ومالنا على الله من مأثم، ثم غسَّله وكفَّنه، وذهب ليصلي مع المصلين، ثم ذهب به إلي المقبرة، ولما وضعه في القبر قال: رحمك الله يا بني، قد كنت بي بارًا، وكنت لك راحمًا، ومالي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، والله يا ذر ما ذهبت لنا بعز، وما أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني –والله- الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر –والله- لولا هول يوم المحشر لتمنيت أني صِرْت إلى ما إليه صرت. يا ليت شعري ماذا قيل لك وبماذا أجبت؟ ثم يرفع يديه أخري باكيًا، اللهم إنك قد وعدتني الثواب إن صبرت، اللهم ما وهبته لي من أجر فاجعله لذر صلة مني، وتجاوز عنه، فأنت أرحم به مني، اللهم إني قد وهبت [لذر] إساءته فهب له إساءته فأنت أجود مني وأكرم ثم انصرف ودموعه تقطر على لحيته
وليس الذي يجري من العين ماؤها *** ولكنها روح تسيل فتقطر
انصرف وهو يقول: يا ذر قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، وربنا قد استودعناك، والله يرحمنا وإياك. ما الذي ثبت هذا الرجل إلا الإيمان؟ .
هذه آثار الإيمان على حياة الناس تظهر عند الشدائد، فيثبت لها الرجال ثبات الجبال الشُّم الراسيات، علوا في الحياة وفي الممات. ومن آثار الإيمان على حياة الناس: ديمومة اتهام النفس، والخوف من الرياء والنفاق، وعدم احتقار الذنب. يقول [ابن أبي مليكة] كما في [البخاري]: أدركت ثلاثين من صحابة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبرائيل وميكائيل. المؤمن يرى ذنوبه كجبل يقعد تحت أصله، يخشى أن يسقط عليه، أما المنافق فيرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فأطاره بيده، ما خاف النفاق إلاَ مؤمن، وما أَمِنَه إلا منافق. يقول [أنس] كما في صحيح [البخاري]: إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدها على عهد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من الموبقات يقول هذا لخير القرون، فماذا يقال فينا؟ نسأل الله أن يرحمنا برحمته.
من آثار الإيمان على الحياة زيادة الأمن في البلدان وعلي الأموال والأعراض، والطمأنينة والهدوء في الأنفس والقلوب. يقول المولى سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) سنَّة الله لا تتخلف، ووعد الله (لاَ يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
من أثار الإيمان نبذ كل ما يفرق الأمة من قوميات وعصبيات وعنصريات ونَعَرَات جاهلية؛ فالمقياس عند المؤمنين حقا التقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ اخوة) لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، جسد مؤمن واحد، بنيان واحد، أمة واحدة ، لا شرق ولا غرب.
لو كبرت في جموع الصين مئذنة *** سمعت في المغرب تهليل المصلين.
أبا سليمان قلبي لا يطاوعني *** على تجاهل أحبابي وإخواني
إذا اشتكي مسلم في الهند أرَّقني *** وإن بكى مسلم في الصين أبكاني
ومصر ريحانتي والشام نرجسي *** وفي الجزيرة تاريخي وعنواني
أرى بُخَارَى بلادي وهي نائية *** وأستريح إلى ذكرى خُرَاسان
وأينما ذكر اسم الله في بلدٍ *** عددت ذلك الحمى من صُلْب أوطاني
شريعة الله لَمَّتْ شملنا *** وَبَنَتْ لنا معالم إحسان وإيمان
يقول -صلى الله عليه وسلم -كما روى [أبو داود] وحَسَّن محققُ جامع الأصول- "إن من عباد الله أناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء على قُرْبهم ومكانتهم من الله، قال صحابة رسول الله: تخبرنا من هم يا رسول الله؟ قال: هم أناس تحابوا بروح الله على غير أرحام فيما بينهم، ولا أموال يتعاطونها فيما بينهم، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يفزعون إذا فزع الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس". (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)
يقع يوم من الأيام بين [أبي ذر] -رضي الله عنه- [وبلال] -رضي الله عنه- خصومة، فيغضب [أبو ذر] وتفلت لسانه بكلمة يقول فيها لبلال: يا ابن السوداء فيتأثر بلال، يوم أكرمه الله بالإسلام، ثم يعير بالعصبيات والعنصريات والألوان، ويذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ويشكو أبا ذر، ويستدعي النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا ذر، فيقول -كما في الحديث المتفق علي صحته- يقول النبي صلى الله عليه وسلم-: " أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية"، فيتأثر أبو ذر ويتحسَّر ويندم، ويقول: وددت –والله- لو ضرب عنقي بالسيف، وما سمعت ذلك من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويأخذ بلال –رضي الله عنه- كما روي ويضع خده على التراب ويقول: يا بلال؛ ضع قدمك على خدي، لا أرفعه حتى تضعه، فتذرف عينا بلال -رضي الله عنه- الدموع، ويقول: يغفر الله لك يا أبا ذر، يغفر الله لك يا أبا ذر، والله ما كنت لأضع قدمي على جبهة سجدت لله رب العالمين، ويعتنقان ويبكيان ذهب ما في القلوب، وانتهى ما في القلوب، والشاهد: إنك امرؤ فيك جاهلية.
ويأتي [سهيل بن عمرو]، ويأتي [أبو سفيان] -رضيَ الله عنه وأرضاه- إلي أين يأتون؟ يأتون إلي مجلس [عمر] –رضيَ الله عنه وأرضاه- الذي لا يدخله إلا المؤمنون حقًا، فيستأذن أبو سفيان –وهو سيد من سادات قريش، بإشارة تتحرك ألوف، وبإشارة منه أخرى ترعد ألوف- يأتي إلى هذا المجلس فلا يؤذن له، وهو مسلم –رضى الله عنه وأرضاه- بعد إسلامه. ويأتي سهيل بن عمرو–وهو سيد من سادات قريش- ويستأذن في الدخول على عمر فلا يؤذن له، ويأتي [بلال] الحبشي الذي أكرمه الله بالإسلام فيؤذن له، ويأتي [صهيب]؛ صهيب الرومي فيؤذن له، ويأتي [سلمان] الفارسي فيؤذن له كذلك، فماذا كانت النتيجة؟ كان من أبي سفيان -رضى الله عنه- أن تأثر وتذمَّر وتنمَّر، وقال: والله ما ظننت أن أُحْبس على باب عمر، ويدخل هؤلاء الموالي قبلي، فقال سهيل -وكان لبيبًا عاقلا- قال: والله ما علينا أن نحبس على باب عمر، ولكن -والله- أخشى أن نُحْبسَ على أبواب الجنة، ويدخل هؤلاء، لقد دعوا إلي الإسلام فأسرعوا، ودعينا فأبطأنا وتأخرنا، فما علينا أن نحبس على باب عمر، إنما علينا أن لا نحبس على أبواب الجنة، أو كما قال. (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ)
أنا مسلم وأقولها مِلء الورى *** وعقيدتي نور الحياة وسؤددي
سلمان فيها مثل عمرو لا ترى *** جنسًا على جنس يفوق بمحددي
وبلال بالإيمان يشمخ عزة *** ويدق تيجان العنيد الملحد
وخبيب أخمد في القنا أنفاسه *** لكن صوت الحق ليس بمُخْمدِ
ورمي صهيب بكل مال للعداء *** ولغير ربح عقيدة لم يقصد
إن العقيدة في قلوب رجالها *** من ذرة أقوى وألف مهند
من آثار الإيمان على حياة الناس: تنقية قلوبهم من الحسد، وتصفيتها من الحقد والغل، واستلال الضغائن والسخائم منها؛ لتصبح الأمة كما قال رب العالمين: (أَشدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) هاهو –صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح من رواية [أنس]، وكما في رواية [ابن اسحق] عن [أبي سعيد الخدري]، عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-" أنه لما قسم غنائم حنين أعطى المهاجرين، وتألف قلوب بعض المشركين، ولم يعطِ الأنصار شيئًا، فوجدوا في أنفسهم، فقال قائلهم: وجد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قومه فنسينا، وقال الآخر: غفر الله لرسول الله، يعطي قريشًا ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فيذهب أحدهم، بل سيد من ساداتهم؛ [سعد بن عبادة] إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويقول وينقل المقالة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما روى: ما أنت؟ يعني أين موقفك أنت، حدِّد موقفك، هل أنت منهم؟ فيقول: يا رسول الله ما أنا إلاّ رجل من قومي، قد أقول ما يقولون -ما يعرفون الخداع، وما يعرفون الالتواء، إنما صرحاء أتقياء أنقياء-. فقال -صلى الله عليه وسلم-: اجمعهم لي، فجمعهم، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار؛ ما حديث بلغني عنكم، ألم آتيكم ضُلالا فهداكم الله بي؟ وفقراء فأغناكم الله بي؟ وأعداء فألف الله بين قلوبكم بي؟ فيقولون: الله ورسوله أمنّ، الله ورسوله أمنّ. قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار، والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصُدِّقتم: أتيتنا مُكذَّبًا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدًا فآويناك، وعائلا فواسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم على لعاعة من الدنيا تألفت بها قلوب أقوام ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم؟ والذي نفسي بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شِعْبًا وسلك الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، أما ترضون أن يعود الناس بالشاة والبعير، وتعودون أنتم برسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فو الله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، ألا إنكم ستلقون بعدي أَثَرَة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فبكى القوم حتى اخضلَّت لِحَاهُم بالدموع وهم يقولون: رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا، رضينا برسول الله قسمًا وحظًّا." لسان حالهم
خذوا الشياة والجمال والبقر *** فقد أخذنا عنكم خير البشر
صلى الله عليه وسلم ، أرأيت كيف استلَّ -صلى الله عليه وسلم- ما في قلوبهم، إنه لو لم يكن فيها إيمان لَمَ استلَّ ما في قلوبهم -رضوان الله عليهم جميعًا-. وهاهو رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح- بين أصحابه فيقول: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل تنفض لحيته من آثار الوضوء، ثم قالها في اليوم الثاني، فطلع نفس الرجل، ثم قالها في اليوم الثالث فكان هو الرجل، فلحق به بعض صحابة رسول الله، وجلسوا معه أيامًا فلم يرَ في هذا الرجل كثير صلاة ولا صيام، فقال له بعد ثلاث ليال: لقد سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول كذا وكذا، ولم أرَك تعمل كثير عمل، قال: والله هو ما رأيت، غير أني لا أنام ليلة من الليالي وأنا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًّشا، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه، قال: بذلك بلغت ما بلغت، وتلك التي لا تُطاق -أو كما قال-، إنه الإيمان. [الإمام الشافعي] -عليه رحمة الله- عوتب من قِبَل بعض المغرضين على زيارة [الإمام أحمد]، وهو أكبر منه سنًا، فقال ردًا على هؤلاء:
قالوا يزورك أحمد وتزوره *** قلت الفضائل لا تغادر منزله
إن زارني فلفضله أو زرته *** فلفضله فالفضل في الحالين له
رد على المعرضين، وكأنه يقول : كمدًا من مات من غيره منهم له كفن إنه الإيمان وكفى. ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه عصمة وحجاب عن المعاصي والشهوات والشبهات. يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح-:" لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" إن المؤمن يا أيها الأحبة يقدِّم مراد الله على شهواته وعلى لذ ائذه، فييسر الله أمره، ويعصمه سبحانه وبحمده. ففي الأثر أن الله -سبحانه عز وجل- قال: "وعزتي وجلالي، ما من عبد آثر هواي على هواه - أي قدم مراد الله على شهوات نفسه وهواها - إلا أقللت همومه، وجمعت له ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه، واستجرت له من وراء كل فاجر" الإيمان عصمة من الوقوع في المعاصي
هاهو الشاب القوي الحيِّي العالم، الذي يبلغ ثلاثين سنة؛ إنه [الربيع بن خُثَيْم]، يتمالى عليه فُسَّاق لإفساده، فيأتون بغانية جميلة، ويدفعون لها مبلغًا من المال قدره ألف دينار، فتقول: علام؟ قالوا: على قبلة واحدة من الربيع بن خثيم، قالت: ولكم فوق ذلك أن يزني؛ لأنه نقص عندها منسوب الإيمان، فما كان منها إلا أن تعرضت له في ساعة خلوة، وأبرزت مفاتنها له، فما كان منه إلا أن تقدم إليها يركض ويقول: يا أَمَة الله؛ كيف بك لو نزل ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك يوم يسألك منكر ونكير؟ أم كيف بك يوم تقفين بين يدَيْ الرب العظيم؟ أم كيف بك إن شقيتي يوم تُرْمَين في الجحيم؟ فصرخت وولَّت هاربة تائبة إلى الله، عابدة زاهدة حتى لقِّبت بعد ذلك بعابِدَة الكوفة، وكان يقول هؤلاء الفُسَّاق: لقد أفسدها علينا الربيع. ما الذي ثبَّت الربيع أمام هذه الفتنة؟ هل قلة شهوة؟ إنها الشهوة العظيمة وفي سن هو أوج الشهوة وعظمتها هو سن الثلاثين، ومع ذلك ما الذي ثبته هنا، وما الذي عصمه بإذن الله؟ إنه الإيمان بالله –الذي لا إله إلا هو- .
فالإيمان –يا أيها الأحبة- كالجمرة متى ما نفخت بها أضاءت واشتعلت؛ فأصبحت إضاءتها عظيمة عظيمة، وحين ينقص منسوب الإيمان يقع الإنسان في الفواحش والآثام، يغرق في الشهوات، ثم يقع بعد ذلك في الموبقات. هاهو شاب من شباب هذه الأمة، كان له صديق سوء، وجاءه في ليلة من الليالي في منتصف الليل وهو نائم ليطرق عليه الباب، طرق عليه الباب في تلك الساعة، وكان نائمًا لم يسمعه، فقامت أمه وفتحت له الباب، وقال: أريد فلانًا، قالت: إنه نائم لا أريد أن أوقظه الآن، قال: أريده لغرض ضروري، ألحَّ عليها فاستجابت حياءً منه، وذهبت وأخرجت هذا الشاب من فراشه، فخرج إلى هذا الرجل، فقال له قرين السوء: نريد الليلة أن ننتهك حرمة البيت الفلاني نريد أن نصعد لذاك البيت، ولنا منه الليلة صيدة –كما يقول-، فما كان من هذا –وقد نقص منسوب الإيمان عنده إن لم يكن قد انعدم- إلاَّ أن دخل وأخذ المسدس، وخرج من نصف الليل، وكان نائمًا، خرج مع قرين السوء يغدوان إلى المعصية لأنهما ما حملا الإيمان كما ينبغي أن يحمل، برجليهما يذهبان إلى الفاحشة، ذهبوا إلي بيت آمن وفي منتصف الليل ليأتي هذا الذي جاء وأيقظه ليصعد الجدار، وينتهك حرمة البيت بسقوطه في وسط البيت، ويبقى ذلك حارسًا بمسدسه خارج البيت، ويسمع صاحب البيت ويقوم، ويأخذ عصى غليظة، ويأتي وراء هذا الرجل يطارده، فيهرب منه ويأتي إلى هذا الحارس؛ صاحب المسدس؛ والذي كان نائمًا في نومته، فيضربه بالعصا ضربة آلمتْه، فما كان منه إلاّ أن أخذ المسدس، ثم قتل هذا الرجل، يا لله ما أعظمها من جريمة! في وسط الليل تنتهك حرمة بيت من بيوت المسلمين، وتقتل -أيضًا- صاحب البيت، ثم بعد ذلك ما النتيجة؟ يأتي رجال الأمن ويقبضون على هذا الرجل، ويقول: إنني لست المجرم الحقيقي، إن المجرم الحقيقي هو فلان، جاءني واستخرجني من دار أمي، وهو الذي أغراني بهذا، فيأخذوه ويذهبون ليبحثون عن الثاني، وإذا بالثاني يذهب إلى جماعة نقص منسوب الإيمان عندها، فيأخذهم شهود زور، يشهدون أنه في تلك الليلة كان نائمًا معهم في القرية الفولانية، ويبقى هذا في السجن، كل ليلة جمعة ينتظر متي ينادي المنادي أن اخرج لتقتل، وأمه تتجرع الغصص، كل ذلك لأنه ما حمل الإيمان كما ينبغي فوقع. "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن" ليس هذا فحسب، إليكم هذا الحدث الذي ذكره الشيخ [سلمان العودة] في كتابه جلسة على الرصيف وأنصح باقتناء هذا الكتيب ليبين لك أثر الإيمان في موت القلوب، أثر نقص الإيمان في موت القلوب، ذكر أن فتاة تبلغ العشرين عامًا جاءت إلى إحدى المستشفيات وهي حامل، فوضعت مولودًا في أحسن صحة وأتمِّ حال، لكنها كانت في قلق دائم شديد، وارتباك ظاهر، مسودة الوجه، كثيرة البكاء، بها من الهمِّ ما بها، وبها من الغمِّ ما بها، طلبوا منها بعد أيام من أيام الولادة أن تبعث لوليها ليخرجها من المستشفى، فارتبكت وبكت بكاءً مرًا مستمرًا حتى كاد يغمى عليها من شدة البكاء، فانفردوا بها في غرفة مستقلَّة وسألوها عن الأمر، ما الأمر؟ وما الخطب؟ وما الحدث؟ وبعد جهد جهيد قالت لهم بصوت متقطع وبقلب مليء بالحسرات والهموم والغموم قالت: إن والد هذا الطفل هو أبوها نفسه، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ما أفظع الأمر! وما أفجعه! والله لو قيل إن هذا وقع في الأمم السابقة لاستفظعناه ولاستبشعناه، ولقلنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لو كان في بلاد الكفر والعهر لاستعظمناه، فكيف إذا علمنا أنه في بيتٍ أهله ربما نطقوا بالشهادتين في كل يوم، وربما سمعوا آيات الله ثم انسلخت قلوبهم منها، فلم يعرفوا معروفًا، ولم ينكروا منكرًا؟! لا تستبعد مثل هذا أخي المسلم؛ فلربما كانت البداية بنظرة خائنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته. ولربما كان ذلك بأغنية ماجنة هيَّجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته. ولربما كان ذلك بمشاهدة تمثيلية فاجرة هيجت الشهوة في نفسه، فوقع على ابنته. ولربما كان بشربة خمر أفقدته عقله فوقع على ابنته. وهكذا فالمعاصي يجر بعضها بعضًا، والسقوط شيئًا فشيئًا
ورحلة النيل تبدأ بخطوة واحدة *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
والإيمان هو الزمام والفيصل. ومن آثاره على الحياة سعادة البيوت والأسر، بيت يدخله الإيمان بيت سعيد لا يُخْرج إلا السعداء بإذن رب الأرض والسماء؛ استعاض أهله عن الغناء بترتيل القرآن آناء الليل وأطراف النهار، واستغنوا عن المجلات الماجنة بتقليب المصحف وكتب السُّنة والكتب المفيدة، واستغنوا عن السجائر وما في حكمها من الخبائث بالسواك فطهروا أفواههم وأرضوا ربهم. سعادة وأي سعادة، نساء هذا البيت مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات متحجبات ممتثلات لأمر رب الأرض والسماوات، يخرج الزوج المؤمن من البيت المؤمن فتقول الزوجة: اتق الله فينا ولا تطعمنا إلا حلالا؛ فإنا نصبر على الجوع، ولا نصبر على النار. هذا بيت [الإمام أحمد] –عليه رحمة الله- يتربى على الإيمان، فاسمع إليه يوم يقول بعد أن توفيت زوجته [أم صالح] يقول: رافقتني أم صالح – يعني زوجته- ثلاثين عامًا، والله ما اختلفت معها في كلمة واحدة. إنه الإيمان يا أيها الأحبة، البيت المتربي على الإيمان ليس هذا فحسب، إن البيت المتربي على الإيمان يدرك الأطفال هذا الإيمان، فيدخل إلى قلوبهم السعادة ولو كانوا لم يحظوا من الدنيا بقليل ولا كثير. إن [الإمام أحمد] كان دخله في الشهر سبعة عشر درهمًا فيأتي أبناؤه ويقولون: يا أبتاه لا تكفينا، قال: أيام دون أيام، طعام دون طعام، وشراب دون شراب، ولباس دون لباس حتى نلقى الله الواحد الأحد. حذاؤه تبقى في رجله ثمانية عشر عامًا –كما ذكر ابنه عبد اله]- كلما انخزمت خطفها، وأعادها إلى رجله؛ لأنه ركل زخارف الدنيا وهو يعلم أن مناديل [سعد بن معاذ] في الجنة خير من هذا.
البيوت المؤمنة تُخْرج أشبال الإيمان، والأسر التي تربت على الإيمان تخرج أشبال الإيمان، وإليكم هذا المثل:
[عمر بن عبد العزيز] -عليه رحمة الله ورضوانه- في يوم العيد، وهو خليفة المسلمين يدخل رجال المسلمين ليهنئونه ويدعون له بقبول الصيام والقيام، ثم يذهب الرجال ويدخل الأطفال؛ أطفال الرعية فدخلوا في هيئة حسنة وجميلة، وبينهم طفل من أطفال عمر ثيابه خَلِقَة وثيابه بالية، وميزانية الأمَّة كلها تحت يديه، ومع ذلك ركل الدنيا تحت قدميه، وربَّى في أهله الإيمان، ففازوا بأعظم حُلة؛ إنها حلة الإيمان، يوم رأى ابنه في يوم العيد بين أطفال الرعية وهم في هيئة حسنة وهو في تلك الهيئة، طأطأ رأسه وبكى، فقال هذا الطفل الصغير، والذي تربى على الإيمان: أبتاه ما الذي طأطأ بك رأسك وأبكاك، قال: يا بني -والله- ما من شيء إلا أني خشيت أن ينكسر قلبك يوم العيد بين أطفال الرَّعية، وأنت بهذه الهيئة وهم بتلك الهيئة، فردَّ ردَّ الرجال المؤمنين، قال: أبتاه إنما ينكسر قلب من عصى ربه ومولاه، وعقَّ أمه وأباه، أما أنا فلا والله. ما الذي علَّم هذا الطفل إلاّ الله الذي رزقه الإيمان من صغره فتربى على الإيمان، فكان منه ما كان
ومن آثاره -أعني الإيمان- على الفرد الولاء الخالص للمؤمنين، والعداء لأعداء الدين ولو كانوا آباءً وأبناءً أو إخوانًا أو عشيرة، ناهيك عن أن يكونوا من المغضوب عليهم والضالين والمجوس والذين أشركوا، وكلهم ضالون.
(لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)
هاهم صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حققوا هذا الأثر، فظهر في تصرفاتهم، وظهر في كلماتهم ومقالاتهم. يقول [ابن عمر]: والله لو أنفقت أموالي كلها في سبيل الله، وصمت النهار لا أفطر، وقمت الليل لا أنام، ثم لم أصبح وأنا أحب أهل الطاعة، وأبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار ولا يبالي [وخبيب] -رضي الله عنه وأرضاه- يُقدَّم تضرب عنقه في ذات الله، فيقال له: أتحب أن محمدًا مكانك الآن، وأنك آمن في أهلك، فيقول -وقد والى الله-: والله ما أحب أن محمدًا يشاك بشوكة وأني آمن في أهلي.
وهكذا يفعل الإيمان. وإذا نقص منسوب الإيمان وإذا تدني منسوب الإيمان تدنى معه الشخص، تدنى إلى مرحلة البهيمية، فأصبح ولاء الإنسان تافهًا حقيرًا مهينًا. يذكر [ابن تيميه]- عليه رحمة الله- أن رجلا تعلق امرأة سوداء فأحبها حبًا جمًّا، فكان يقول يوم نقص منسوب الإيمان عنده:
عدو لمن عادت وسِلْم لأهلها *** ومن قرَّبت كان أحب وأقربَ
ليس هذا فحسب، بل قال مرة أخرى:
أحب لحبها السودان حتى *** أحب لحبها سود الكلاب.
صار الحب فيها، والبغض فيها، والولاء لها، والعداء لأعدائها، مع أن الأصل من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان ولن ينال عبد طعم الإيمان وإن صلَّى وصام حتى يكون كذلك ومن آثار الإيمان على حياة الناس أنه يكسب العزة التي تجعل الإنسان يمشي نحو هدفه مرفوع القامة والهامة، لا يحني رأسه لمخلوق، ولا يطأطأ رقبته لجبروت أو طغيان أو مال أو جاه، فهو سيد في الكون هذا وعبد لله وحده.
لا غرو إذا رأينا مؤمنًا أعرابيًا مثل [ربعي بن عامر] حين باشرت قلبه بشاشة الإيمان، وأضاءت فكره آيات القرآن، يقف أمام [رستم] في سلطانه وإيوانه غير مكترث له ولا عابئ به حتى إذا سأله رستم من أنتم وما الذي جاء بكم؟ حقق في الإيوان وأجاب إجابة في عزة مؤمنة خلدها التاريخ فقال: نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلي سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. عزة وأي عزة! إنها لا توجد إلاّ في ظلال ا